الإسلام و الديمقراطية
الإسلام و الديمقراطية
*العلامة السيد محمد علي الحسيني
تشهد المنطقة منذ إندلاع الانتفاضة الشعبية في تونس و الاطاحة على أثرها بالرئيس التونسي زين العابدين بن علي، اوضاعا استثنائية غير مسبوقة شملت مصر حيث هبت الجماهير المصرية و فرضت إرادتها على الساحة السياسية و اجبرت الرئيس المصري حسني مبارك على التنحي عن السلطة، هذه الاوضاع التي إنتقلت تأثيراتها و تداعياتها الى ليبيا حيث تمر حاليا بمفترق حاسم، صارت مادة و موضوعا دسما للعديد من التحليلات و الدراسات و البحوث السياسية و الفکرية و الاجتماعية المتباينة، لکن، يتم الترکيز و التأکيد بشکل خاص على قضية الديمقراطية و بزوغ فجرها المنتظر في الوطن العربي.
ولئن کان الکثير من الکتاب و المحللين و العديد من الاوساط السياسية و الى فترة قريبة، تنعت الامة العربية بشتى النعوت و الاوصاف السلبية من حيث خضوعها و قبولها بالانظمة التي تتمتع بصرامة في تمشية الامور و تطبيق القوانين وانها"أي الامة العربية"، لا و لم ولن تفکر يوما بالثورة او الانتفاضة على أنظمتها، بل وان قسما لافتا للنظر من الکتاب و المثقفين قد عزوا ذلك الامر الى اسباب تتعلق بالجانب الفکري ـ الاجتماعي او بکلمة أدق بالجانب الديني، مؤکدين بأن الاسلام و الفکر الديمقراطي و الممارسات المتداعية عنها، عالمان منفصلان و لايمکن أن يلتقيا يوما من الايام، وکما هو دارج و معروف، فقد تلاقف هؤلاء هذه الرؤية و الفهم أساسا من تيارات صهيونية المشارب و تجاهر بالعداء للعروبة و الاسلام، وطفقوا يرددون ماتذکر هذه التيارات من أفکار و طروحات مشبوهة و مغرضة تحمل في داخلها الکثير من الاهداف و الغايات العدوانية السامة بحيث باتوا يعيدوا تلك الافکار و الطروحات"المشبوهة المغرضة"، وکأنها حقائقا او أمرا واقعا مفروغا منه.
الى الامس القريب، کانوا يعتبرون الامة العربية، أمة نائمة و غافلة عن مجريات الامور و تطورات الاحداث في المنطقة و العالم، بل وان بعضا منهم ذهب أبعد من ذلك عندما جعل من صمت الامة على الاوضاع السياسية ـ الفکرية ـ الاقتصادية ـ الاجتماعية في بلدانها، مادة للتندر بحيث ذهبوا الى حد الزعم بأن العالم کله سيتغير إلا العرب! لکن، وبعد الاحداث الاخيرة في مصر و تونس و ليبيا، إنقلب هؤلاء بزاوية مغايرة تنحرف 180 درجة عن مواقفهم السابقة! اليوم، يتغنون و يمجدون و يسبحون و يحمدون بقوة إرادة و عزم هذه الامة و يعتبرونها کقدوة و مثال نموذجي للعالم کله من حيث إتسام الثورتين التونسية و المصرية ببعد حضاري ـ إنساني مشهود له، إذ لم يتم التعرض للأماکن العامة و لاتم التعرض للسياح الاجانب و لا أقيمت حمامات دم إنتقامية، لکن، لم يبري أحد من هؤلاء للتساؤل عن السبب الکامن خلف هذا البعد الحضاري ـ الانساني وانما يسعون و بشکل ديماغوجي و ببغاوي الى ربطه بالافکار و القيم الغربية، لکن الحقيقة و الواقع أن کل الذي يزعمونه عن إنفصام و إنفصال و عدم ترابط بين الاسلام و الافکار الديمقراطية، هو من أساسه محض هراء، ذلك أن الديانة الاسلامية التي بشرت بأفکار تحررية و غيرت قيم و عادات و تقاليد بالية لمجتمعات عديدة، لايمکن أن تکون وسطا او مکانا ملائما للإستبداد و الکبت و القمع، أنها ديانة دعت الى مراعاة و ضمانة أمن و کرامة و حيثية الانسان و شددت على عدم إنتهاك أي من حقوقه الاساسية و لاسيما حريته في التعبير و إبداء الموقف، وان القرآن الکريم الذي لايأتيه الباطل من أمامه او خلفه هو دوما(يهدي للتي هي اقوم)، وان دينا يخاطب العالم برمته و بصورة في منتهى الصراحة: لاإکراه في الدين قد تبين الرشد من الغي(البقرة 265) وفي مکان آخر: وادع الى سبيل ربك بالحکمة و الموعظة الحسنة و جادلهم بالتي هي احسن(سورة النحل 125)، او کما يذکر في موضع آخر: ولاتجادلوا أهل الکتاب إلا بالتي هي احسن إلا الذين ظلموا منهم و قولوا آمنا بالذي أنزل إليکم و إلهنا و إلهکم واحد و نحن له مسلمون.(العنکبوت 46)، أو کما يذکر في جانب آخر: يا أيها الناس إنا خلقناکم من ذکر و أنثى و جعلناکم شعوبا و قبائل لتعارفوا إن أکرمکم عند الله أتقاکم.(الحجرات 13)، هکذا منطق و منهج رصين و رزين و واضح و جلي بما يحويه من قيم و أفکار في منتهى السمو، لو دققنا فيها جميعا لوجدنا أن الخيط الاساسي الذي يربط بينها هو إحترام ماهية الانسان و منح قدر أکبر لإعتباره الانساني و جعلها فيصلا في حسم الامور، فليس يفرض الاسلام أمرا من دون محاکاة او مجادلة العقل الانساني، ومن هنا، فإن مجتمعات مشرئبة و مشبعة بهکذا نفحات عبقة من فکر سماوي تحرري، ليس بالامکان أبدا أن يکون معاديا او منافيا للحرية و الديمقراطية، وان الاخلاق العالية التي تحلى بها المنتفضون في کل من تونس و مصر، کانت في الاساس إنعکاس لما هو مزروع و مغروس في أعماقهم من هذه القيم النيرة القويمة.